إن القراءة التقليدية للصعيد تتجاهل التغيرات التي شهدتها المنظومة والبنية الاجتماعية، وفي العلاقات والتراتبية الاجتماعية وحتى هيكل السلطة المحلية لصالح جماعات وليدة سياسات الانفتاح والتحول الاقتصادي، كما ذكر الباحث المصري عمرو عدلي في أحد تعليقاته التي قارن فيها بين أوضاع الصعيد والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع الجنوب الأمريكي عقب الحرب الأهلية الأمريكية، وتأثير عسكرة المجتمع.
أعتقد أن هناك تناقضاً كبيراً بين الصورة التي تقدمها هذه الأدبيات وحقيقة التركيبة الطبقية والفئوية المكونة للمجتمع الصعيدي. إن هناك جماعات في الصعيد لا يعرف عنها كثير من الباحثين ما يكفي، ولا يُسلّط عليها الضوء أو تبالي الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية بدراستها. حيث ينصب التركيز على دراسة المجتمع الصعيدي فقط عبر دراسة المدن والقرى الكبرى من جانب، والاهتمام بدراسة قضايا ومسائل أقرب للكليشيهات منها للمواضيع المهمة حقاً. فعلى سبيل المثال يتم التركيز على دراسات الحضر والريف، والتهميش، وحتى تأثير الثقافة، ولكن لم يدرس الكثير من الباحثين المجتمعات البدائية في الصعيد، أو المهمشين داخل الصعيد ذاته، مسألة الوعي والإدراك الشعبي إلخ.
إننا بحكم انتمائنا للصعيد نعلم تماماً أن هناك أوضاعاً اجتماعية واقتصادية تشعرك بالفعل أحياناً كثيرة بأننا مازلنا في القرون الوسطى، أو ما يمكن تسميته بالحداثة الكاذبة False Modernity، وأحياناً أخرى في عصور وسطى حداثية Modern Middle Ages، فالبشر قد يمتلكون أجهزة الكترونية ووسائل إنتاج ومعيشة وترفيه حديثة، ولكنهم في طريقة وأسلوب ومستوى معيشتهم وتفكيرهم وتصرفاتهم ينتمون للعصور الوسطى، وهو أمر يحتاج فيما أتصور لبعض التوضيح.
عن الشمال الذي يثور والجنوب الساكت!
يقول الكثيرون إن أسباب عدم ثورة الجنوب ترجع لثنائيات مثل الحضر والريف، أو المركز والأطراف، الاستبعاد والتهميش. إنني رغم موافقتي المبدئية على الصحة الجزئية التي تقدمها هذه المداخل لتفسير أسباب عدم ثورة الجنوب، إلا إنني أعتقد أن المسألة أعمق من ذلك وأوسع. مبدئياً، دعونا نتساءل هل كان ما وقع في بر مصر فعلاً هو حالة ثورة شاملة أم هي ثورة بحري فقط؟ اعتقد أن ثورة يناير كانت بالأساس ثورة المركز (ثورة القاهرة الثالثة) بدون أي اختزال للمركز والأطراف كما يحب أن يردد البعض.
لقد كانت القاهرة مركز الثقل الحقيقي للثورة، ديموغرافياً وجغرافياً، والسبب وراء ذلك يرجع بالأساس لطبيعة بنية الدولة في العالم الثالث التي تتسم بالمركزية المتطرفة، والتي تؤكد على أنه إذا أردنا التغيير الجذري فلا يتم ذلك إلا عبر العاصمة، ولدينا الدليل الحي كما في ليبيا وسوريا، مقابل مصر وتونس. الأول تعثر لأنه طرفي والثاني نجح لأنه استهدف بنية السلطة المركزية، ودون أن يقلل ذلك من دور الأطراف، في حالة مصر كان للسويس والمحلة وبالطبع الإسكندرية دور هائل في إنجاح الثورة.
ولكن هل قامت مصر كلها بالثورة، الإجابة بالنفي، وليس المطلوب أن تكون بالإيجاب لأنه شبه مستحيل نظرياً. ولكن على الأقل كان هناك ما يمكن أن نسميه تفاعلاً أو مساندة للتيار الرئيسي للثورة المتمثل في العاصمة وبعض حواضر الشمال. ولعل ذلك يكون خير معاون لتفسير الأفعال الثورية الجزئية التي شهدتها مدن الصعيد وقت الثورة.
لماذا لا يثور الصعيد؟
مبدئياً، يجب الاتفاق على أن الصعيد ليس كتلة واحدة كجلمود صخر، ولكنه كيان واحد جغرافياً، ومتعدد اجتماعياً واقتصادياً وحتى ثقافياً، فبعض القيم والأخلاق السائدة في مناطق غير موجودة بنفس الدرجة في مناطق أخرى، كما قال محقاً هاني رسلان. وهو ما يفسر لماذا كانت الأغلبية صامتة وسلبية تجاه الثورة، إلا أن هذا لم يمنع من وجود أقلية من أهله قامت وانتفضت ورفضت هذه الأوضاع الكريهة واللاإنسانية التي صنعها ومارسها النظام التسلطي لدولة مبارك.
هل هي السياسة؟
إن مشكلة الباحثين الذين يقومون بدراسة الصعيد هي عدم الدراية الكافية بسيكولوجية "الصعيدي" تجاه الشرطة، أو السلطة عموماً. فهناك نمط سلوكي أدعي أنه لم يتغير جوهرياً منذ الدولة المملوكية (ولعل نظرة سريعة في كتاب خالد فهمي عن سلوكيات العصيان والاحتجاج لدى الفلاحين والصعايدة ضد الباشا محمد علي تظهر أن ذلك لم يتغير كثيراً). ما أقصده هو أن هناك شبه نمط سلوكي شائع في الصعيد، صنعته قرون من الاستعباد والقهر والمعاملة اللاإنسانية من قبل السلطة تجاه الجموع (وهنا أختلف مع الرأي القائل بأن هيمنة الدولة على الصعيد كانت هيمنة إرادية أو تلك الآراء القائلة بأن عنف الدولة تجاه الصعيد كان انتقائياً وليس جماعياً). لقد شاهدت بأم عيني كيفية تعامل السلطة (ممثلة في الشرطة والجيش) مع المواطنين الصعايدة (المجندين) في مناطق التجنيد (أو ما يسمى بمناطق العزل ومراكز التدريب) معاملة غير إنسانية بالمرة (الضرب بألواح الخشب على الرأس والسب بأقذع الشتائم) ولعل مراجعة سريعة لشهادات ضحايا قطار العياط تظهر ذلك جلياً. هذا هو النمط السائد في التعامل مع الصعايدة كافة (وقد تعرضت أنا لبعض هذه المواقف شخصياً) لا فرق بين من يرتدون الجلابية أو البدل، جهلة أو متعلمين.
السياسة بهذا المعنى منعت بكل تأكيد أي محاولات للتمرد الجماعي على السلطة، ولم يثر سوى الشباب المتعلم الذي تخلص، بفضل قطرات المدنية والحداثة الذي وفرها له التعليم والتكنولوجيا المستوردة، خصوصاً تلك التي جلبتها أموال القادمين من الخليج العربي ومن المهجر.
هل هو الاقتصاد؟
هنا يظهر العجب العجاب، فإذا كانت المظالم الاقتصادية تاريخياً هي الدافع والمحرك الرئيسي لاندلاع الثورات، فإن حالة الصعيد تعتبر مفارقة وتضاداً عظيماً. كيف، إذا نظرنا إلى الأوضاع الاقتصادية والتنموية في الصعيد فإننا سنستنتج بالتأكيد، وفقاً للاعتبارات النظرية، بإننا أمام مجتمع على أعتاب انفجار اجتماعي (وليس فقط اقتصادي) فلا تنمية، ولا بنية تحتية، ولا استثمار، ولا توظيف، نسب البطالة في تزايد مضطرد، التعليم مترد، الأوضاع الصحية بدائية، مستويات المعيشة والدخل الفردي منحطة، لا حديث هنا يجدي حول طبقة وسطى أو نخبة اقتصادية تعمل كقاطرة للتحول الاجتماعي والاقتصادي، بسبب ما جرى من ترييف المدن وتمدن القرى (الكاذب)، بات هنا الوضع عبارة عن جزر أرخبيلية ممن يملكون ومن لا يملكون.
حتى التقسيم العادي للمجتمع (عمال، فلاحون، طبقة وسطى، أغنياء ... الخ) غير موجود بهذه الصورة الجلية. فالصعيدي، هو موظف حكومي صباحاً، وفلاح بعد الظهر، وتاجر بالليل. وهو ما أنتج خللاً اجتماعياً ووظيفياً، وأوجد أجيالاً ضائعة ثقافياً وسلوكياً، لا تعرف لها انتماء حقيقياً، ولا أية قضية عليا تتمسك بها، هنا يتضح أن فكرة الولاء في الصعيد هو الولاء للأرض الزراعية، أو للأموال التي يتم تحصيلها، أو حتي لهياكل السلطة التقليدية الموجودة (من الخطأ جداً النظر للصعيد باعتباره، كما ذكرت، مخزن الثورة المضادة والفلول، أو كما يُنْظر له كحليف عتيد للنظام الديني في مصر).
هذا التردي الاقتصادي لم يؤد للثورة (كما تقول النظرية) لأن هناك بديلاً للمنظومة الاقتصادية الرسمية. فبسبب الطبيعة والبنية الزراعية للمجتمع الصعيدي، وحتى التركيبة النفسية التي تفضل النأي عن السلطة وتراها مكسباً، فقد توافرت لديهم بدائل للاحتياجات الأساسية لهم (خصوصا من المأكل والمشرب وصولاً للوقود التقليدي وهكذا) حتى وإن لم يمنعهم ذلك من الاعتماد على الحكومات، ولكن ليس بالصورة التي تجعل من تردي الأوضاع الاقتصادية وعدم توفير الحاجات الأساسية (كما تجادل أدبيات مدرسة الحاجة) إلى الثورة والتمرد، ولعل هم في ذلك يشبهون بعض مدن الدلتا المعتمدة على الزراعة الكثيفة، ولم تثر مثل البحيرة وغيرها.
هل هي الثقافة المحلية؟
يقول البعض بأن القيم الاجتماعية والأعراف هي السبب وراء عدم ثورة الصعيد، وذلك صحيح إلى حد ما. فقد ساهمت القيم المجتمعية ومنظومة القيم في عدم ثورة الصعيد. ولكن دعوني أوضح ما المقصود بهذه القيم. المقصود بها هنا "نمط العلاقات المجتمعية التي تحدد شكل العلاقة مع السلطة وبقية مكونات المجتمع المحلي، والمستمدة من الخبرات الحياتية السابقة ". لقد تحدث البعض (مثل صديقنا الباحث اسماعيل الاسكندراني) عن ظاهرة أو قيمة "الثأر" وكيف كان دافعاً لدى البعض للثورة. نعم، إن ذلك قد يكون صحيحاً، ولكن ليس في كل الأحوال. ولكن الثأر لم يكن دافعاً أو محركاً أو حتى محفزاً للخروج على السلطة، لأنها من جانب ليست معركة عائلية أو ثأراً شخصياً، ومن ناحية أخرى، الصعايدة لا يحددون ويشكلون علاقاتهم مع السلطة من منظور الثأر، ولكن من منظور العداء (في حالة العصيان)، كما في ما تقدمه حالات مثل الخُط (المجرم الشهير) في أربعينات القرن الماضي، أو بلطجي قنا وأسوان الشهير (الحمبولي).
على كل حال، الثقافة والقيم الصعيدية (التي هي جزء من الموروث الشعبي والتفاعل والممارسة الممتدة عبر الأجيال) كانت محافظة ورجعية ومتشددة إلى حد كبير اجتماعياً، أما في علاقتها مع السلطة فتراوحت بين مسايرة الركب أو التبعية منذ سقوط الملكية. أما قبل الملكية فلا يمكن التكلم عن الصعيد كوحدة ذات وزن مستقل، فالمصريون (خاصة في الصعيد) كانوا رعايا – وليسوا مواطنين – لا حقوق لهم.
نأتي بعد ذلك للتربية، ربما تتذكرون رد الفعل العكسي الهائل على كلام هشام قنديل (رئيس الوزراء السابق) على سيدات بني سويف، وعن قذارتهم والانحراف الأخلاقي لهم ... إلى آخر هذه القصة المقيتة. حسناً، إنها ليست مقيتة لهذه الدرجة، ولكنها إلى حد كبير حقيقية، ولكن طريقة توظيف الإخوان لها وإظهارها بهذا الشكل ضيع المغزى المفترض معرفته من ورائها.
هؤلاء أناس لا يعرفهم إلا من عاش وسطهم أو اختبرهم عن قرب (هنا الرجوع لكتابات أنثروبولوجية مثل مؤلفات ريم سعد مفيد للغاية). هؤلاء على هامش الحضارة، لا يبالون بأحد (كما لا يبالي بهم أحد) ولكن لأن الديمقراطية وضعت المفتاح في أصواتهم فإن الكل يتعامل معهم كالمومس، يريدها حتى الظمأ ولكنه يستحي أن يسير معها في العلن، تقومون بتعبئتهم وقت الانتخابات بوعود كاذبة، وتحملونهم مسئولية الردة وإفشال الثورة. هم لا يدركون أساساً ما هي الدولة أو الحكومة، ناهيك عن ماهية الثورة.
وهنا تتضح مركزية وخطورة مسألة الوعي (Perception)، هؤلاء أناس لا صوت لهم (ولا حتى صورة). إن دعاة المركزية عليهم الإحاطة بأنها لا تعني فقط تجاهل الأطراف، ولكن إخراس الأغيار (الذين لا يطابقون المواصفات). فهل يدرك هؤلاء أن هناك مئات الآلاف من المصريين الصعايدة لا يمتلكون حتى الآن مكاناً ملائماً لقضاء الحاجة، أو أن هناك أناساً لا يدركون أو لا يعرفون كيف يقرأون الفاتحة (ومع ذلك هم قادرون ومستمرون في البقاء والكفاح والزراعة وتسيير أمور الحياة الاعتيادية الخاصة بهم) كيف تتوقع منهم أن يشاركوا في ثورة، التي تعني وسط ما تعنيه "وصول الوعي الإنساني الفردي والجمعي لذروة توقده وحضوره، بصوره تدفعه لتغيير الأوضاع الجائرة المحيطة به ". نعم، إن المصريين ليسوا فقط في القاهرة، أو الإسكندرية أو السويس أو الصعيد، ولكن مصر بها جمسة (وهم تجسيد حي لما يمكن أن نطلق عليهم Savages Community) وشلق وغجر وغيرهم، ممن لن تجد عنهم الكثير في الكتب أو في كافة وسائل الإعلام، أو حتى في الشوارع. يعيشون في جيتوهات خاصة بهم. هم مواطنو الظل، بلا حقوق أو اهتمام. الجميع يتحدث عنهم، ولكن لا أحد يعرفهم حق المعرفة. وهؤلاء كثر. الصعيد فيه حوالى 3000 قرية وعزبة (وليس نجوعاً أو كفوراً كما تروج الأدبيات الهزلية والسينما والمسلسلات التلفزيونية) ومن الممكن الجزم بأن ما بين 40 – 60 % من أهل هذه القرى هم من النوعية التي تحدثت عنها من البشر.
هذه القيم المترسخة في المجتمع الصعيدي السفلي – وبحجم كبير – هي التي حالت دون اندلاع الثورة في الصعيد بالشكل التي شهدته مناطق الشمال، حتى المدن الصعيدية الكبرى (كأسيوط والمنيا وقنا وأسوان) فقد ساهم التشوه العمراني (ترييف المدن والهجرات الكبيرة للقرويين للمدن وإنشاء حزام العشوائيات الهائل في كل مدينة) في أضعاف بشدة تيار التمدن والتحرر الذي كانت تمتاز به المدن (وما زالت في كثير من المناطق) وتم تقليم أظافر الطبقة الوسطى وتحويلهم لقرويين محافظين خانعين (إن لم يكونوا جبناء) وأصبحت مدن الصعيد – بدون تجميل – أجنة اجتماعية وثقافية، وبالتأكيد سياسياً، مشوهة، فترى الآباء ينفقون كل مدخراتهم على التعليم والشهادات العليا، ولكنهم لا يسمحون بمغادرة البنات للقاهرة أو حتى للمدن (وفي أحسن الأحوال بدون محرم) وحتى الشباب، هناك سلطوية ومركزية متجذرة للأسرة في تشكيل حياتهم وسلوكياتهم، ناهيك على مشاركتهم المجتمعية (مازلت أتذكر كيف أخبرني بعض الأصدقاء بما حدث معهم، كما حدث معي، عندما منعهم الأهل، ونحن المتعلمين المستقلين مادياّ ومنا المتزوج، وكثير منا سافر ويعيش في الخارج منذ سنوات، من المشاركة في الثورة منذ بدايتها، وألا نذهب للتحرير أو الاشتراك في المظاهرات). فما بالنا بمن هم من غير المتعلمين أو أنصاف المتعلمين، إن مسألة مثل سطوة الأسرة في الصعيد مازالت في حاجة للكثير من التحليل والدراسة.
هل هو التعليم؟
نعم بالتأكيد، وهو سبب رئيسي لفهم عدم ثورة الصعيد. فالتعليم الذي نقصده هنا ليس القراءة والكتابة فحسب أو حتى الحصول على شهادة جامعية، ولكن كوسيلة الترقي الاجتماعي والتمدن واكتساب المعرفة الحديثة التي تؤهل الفرد ليكون عضواً فعالاً في مجتمعه، ولديه القدرة على تقديم إنجاز في مجال تخصصه، وفوق كل ذلك بالتأكيد الإلمام بالحقوق والحريات والواجبات التي عليه أن يحيا بها كمواطن في مجتمعه، دون إفراط في حقوقه أو تفريط في واجباته.
هل التعليم في الصعيد (وفي مصر عموماً) هو ما ذكرناه، بالطبع لا، ولكن هناك درجات في تحديد ذلك تتوقف على المستوى الاقتصادي والانتماء الجغرافي، وحتى العرقي والطائفي. الصعيد بكل معاني الكلمة مفرخة تطرف وجهل ورجعية، الأوضاع المادية منهارة، الأبنية التعليمية آيلة للسقوط، الكوادر البشرية مستواها العلمي والأخلاقي في تراجع مستمر (جيل المعلمين الذين في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات جزء كبير منه يتعاطى المخدرات المحلية مثل الحشيش والبانجو أو الحبوب، كيميا بلغة الشارع المتداولة) ناهيك عن ضحالة ثقافتهم وانحطاط مستواهم العلمي والقيمي، وعدائهم الغريب لمصادر ووسائل التعليم الحديثة.
هذه المنظومة المهلهلة لم تنتج إلا شباباً مساكين، ضائعين (دون إحساس وإدراك لضياعهم) الأحوال المادية لأهلهم متواضعة، المدرسة بالنسبة لهم عذاب (مازلت أتذكر بوجع حفلات التعذيب والسادية التي كان الأساتذة يتفننون في تطبيقها علينا في المراحل الابتدائية والإعدادية بذنب أحياناً، وبدون ذنب في الغالب) والبيئة المحيطة بهم لا تهذبهم أو توظف طاقاتهم بصورة إيجابية (كممارسة الرياضة، الكشافة، الرسم، ارتياد المكتبات العامة، المسرح) حتى المستوى الضعيف الذي لحق جيلي (مواليد الثمانينات) بعض أوجهه من أنشطة النادي الصيفي ومكتبة مجلس المدينة ومسرح قصر الثقافة، وحتى المجلات المصورة الرخيصة التي كانت العائلة حريصة على متابعتي لها أسبوعياً، لم تعد موجودة الأن.
إن الأوضاع الراهنة في الصعيد تنحدر من السيئ إلى الأسوأ، وهو ما يفسر انتشار المخدرات الكثيف (أفقيا من ناحية كمية المخدرات ورأسياً من ناحية أعداد المتعاطين) أو في انتشار الاتجاهات المتطرفة دينياً، وهو هنا يمين جاهل وأبوي ومتناقض، فمن الممكن أن تجد النموذجين مجتمعين في شخص واحد (سلفي يتعاطى المخدرات).
إذا كان صحيحاً، وهو كذلك، أن السياسة الفاسدة تنتج أناساً فاسدين، فإن التعليم السيئ أنتج بالفعل أجيالاً فاسدة، وحتى خريجي الجامعات، قمة التناقض والتشتت والتأرجح بين الأفكار والتيارات الثقافية والسياسية، دون معرفة أو قراءة. فالليبرالي في يوم وليله تجده سلفياً جهادياً، دون فهم أيهما (مازلت حتى الآن أضحك عندما أتذكر أصدقاء كُثر يجمعون بين الشيوعيين والشيعة). معاد بالفطرة للثورة، لكنه لا يطيق الداخلية، مؤيد لمبارك لكنه بلا عمل أو زواج أو سكن مستقل، متطرف في الدفاع عن الأخوان والشريعة، ولا مانع في سيجارة حشيش أو سهرة ساخنة، يقدس الجيش والداخلية في نفس الوقت، ولكنه يريد الديمقراطية والحرية المشروطة.
إن أغلب الشباب الصعيدي (الذي لم يحرك ساكناً طوال حياته) هو بالأساس ضحية للنظم السياسية المستبدة وللنظم الاجتماعية المنغلقة، فهو ابن لبيئته المحرومة (كلياً وليس نسبياً كما يقول تيد غار) أصبح الآن الأداة الطيعة في أيدي قوى التسلط، مستغلة جهله وطيشه وحاجته وتوظفه لصالح مشروعها الفاشي، مكررة نفس خطيئة النظام العسكري السابق، بعد أقل من عام واحد على ثورة ذويه من الشباب المتعلم المتفتح الواعي في الشمال.
هل هو الدين؟
ربما، خصوصاً إذا كنا نتحدث بالتحديد عن الدين والتدين هنا في الصعيد، فنحن هنا نتحدث عن ممارسات اجتماعية وشعبية (نتاج البيئة المحلية) للتدين، سواء من المسلمين أو المسيحيين. إن بيئة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية بالشكل الذي تم وصفه أعلاه، لنا أن نتخيل كيف سيكون دور الدين فيها. إن الخطاب الديني في الصعيد – بعيداً عن الأوقاف ومنابر الدولة – بكلمة واحدة هو خطاب متطرف ورجعي وعنصري وطائفي (أسيوط والمنيا هي منبت الجماعات التكفيرية في مصر، وأكبر تهديد ديني واجه الدولة المصرية جاء من الصعيد، ومن نفس المكان الذي خرج منه أخناتون للمصادفة أو لغيرها ... محافظة المنيا .. وتحديداً مركزي ملوي وأبو قرقاص حيث أنتمي).
هذا الخطاب إلى جانب سطحيته وتفاهته، فإن القائمين عليه يزرعون كذلك ثقافة الخوف وإيثار السلامة ومهادنة السلطة، وأحياناً كثيرة متطوعاً دون أوامر. فهو يكفر المجتمع والناس والعالم، ولكنه في ذات الوقت لا يتورع عن أن يكون مخبراً للأجهزة الأمنية، وعبداً للسلطة (أي سلطة ولو ممثلة في شخص مخبر) معاداته للحداثة والتقدم فوق الوصف، يكره العقل والجدل والنقد، ثقافة السمع والطاعة ومنهج العنعنة هو السائد. لا يتحدث إلا عن توافه الأمور وغريبها، لا ثقافة لديه ولا إطلاع أو تحديث للخطاب لديه، وهو ما يجعل الجماهير (التي لا تعرف سوى أربعة أو خمسة أماكن منهم المسجد) مغيبين، ولا يثقون إلا في ما يقوله إمام أو شيخ الجامع. ويمكن قول الكلام نفسه عن الكنيسة، فأوضاع المسيحيين الصعايدة الفكرية والدينية متردية.
مثل هذا الخطاب الديني – جنباً إلى جنب مع العوامل الأخرى وعلى رأسها وسائل الإعلام الجماهيري المجانية والمملوكة للدولة مثل التلفزيون – يفسر لنا سر الصمت المطبق الذي أصاب أغلب مدن وقرى الصعيد وقت الثورة، فالمسجد/ الكنيسة يقول حرام شرعاً، والتلفزيون يقول خونة للوطن، وهم لا يدركون أو يفهمون ما يجري، والشرطة تضيق عليهم الخناق، وحتى أبناؤهم (الذين أنفقوا على تعليمهم الكثير) لا يساعدونهم في الفهم، وكيف يساعدونهم وهم أنفسهم لا يفهمون. وبالتالي، فإن سلوكهم السياسي (رغم تحفظي على استخدام المفهوم هذا) كان طبيعياً أن يتم صياغته وتشكيله من خلال المصادر والمنابع التي تغذيهم بالمعلومات والتطورات، وهو ما جعلهم يميلون للدولة والنظام القديم ويعادون الثورة (وليس فقط لا يشاركون فيها) فهم لا يصل إليهم إلا وجهة نظر واحدة، إن هم اهتموا بالاستماع لها. فالحياة لهم هي البيت والغيط والسوق والجامع/الكنيسة. ومادامت هذه التحولات أو التغيرات التي تجري في المجتمع لا تؤثر على هذه المنظومة البسيطة (وبصورة مباشرة تماما) فهم ببساطة لا يبالون البتة.
هل هي الجغرافيا؟
يرى البعض أن البعد عن المركز هو سبب عدم ثورة الصعيد. أقول إن هذا ليس كافياً في حد ذاته، ولكن سيكون الموضوع أكثر شمولاً لو تم النظر إليه من منظور ثنائيات الاستبعاد والإدماج، جنباً إلى جنب مع البعد عن المركز. فإلى جانب البعد المكاني عن القاهرة، حوالى 150 كيلو جنوب القاهرة يبدأ الصعيد إدارياً (محافظة بني سويف) ويصل أقصى امتداد لحوالى 800 كيلو جنوبها (محافظة أسوان) فإن الصعيد يعاني من حالة تهميش بنيوية Structural ومتعمدة Compulsory من العاصمة ومن الشمال عموماً. فالصعيد الذي يبلغ عدد سكانه حوالى 27 مليون نسمة (حسب تعداد 2007) من إجمالي 85 مليون (حوالي ربع سكان مصر) بينما مساحته لا تتعدى (مع الدلتا) 4% من إجمالي مساحة مصر الإجمالية. إلا أن المتفحص يلاحظ التباين الشاسع (على المستوى الوطني) والفجوة الكبيرة بين الأوضاع الاقتصادية والتنموية بين الوادي والدلتا. فالصعيد بمعنى الكلمة (مجمع الفقراء في مصر) يضم أقل المحافظات تنمية في عموم الدولة (سوهاج والمنيا) ومن ناحية أخرى، أبناؤه مستبعدون ومهمشون إلى حد كبير في كافة المناصب العليا والحساسة (لا يوجد مذيع صعيدي أو نوبي أو سيناوي واحد على القنوات الوطنية).
من جانب آخر، فإن النظرة العامة لهم دونية وهم محط سخرية شعبية من أهل الشمال، ودائما موضع اشتباه أمني من الشرطة بسبب زيهم العام (الجلباب والعمة والشال) لا حقوق لهم ولا كرامة، ممنوعون من دخول الكثير من المناطق والأماكن (ولو بالعرف) مثل الفنادق السياحية والنوادي وبعض التجمعات السكانية الجديدة، الجميع يسخر من عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم الشعبية، وهم دائماً محل للتقليل من الشأن وعدم الثقة في توظيفهم، للافتراض المسبق والمجحف بأنهم جميعاً أغبياء أو غير أذكياء (أقفال كما يقول العوام) وهو ما يجعلهم يشكلون الجزء الأكبر، إن لم يكن الوحيد، من القوى العاملة البدنية والعمل في مجالات شاقة مثل المقاولات وخدمات الشحن والتفريغ والصحراء والمحاجر ... وغيرها من الأعمال التي تعتمد على الجهد البدني، وهو ما يفسر الأسطورة الشعبية التي يرددها الصعايدة للتخفيف من وطأة سيطرة أهل الشمال عليهم وتحكمهم في رزقهم والتفوق المعيشي والحياتي عليهم "الصعايدة أرجل من البحراوة وأكثر منهم شهامة " وهو الأمر الذي تحول لشعور غير واع لتعزية النفس وتعويض القهر والتهميش وعدم التقدير الذي يلاقونه سواء داخل وطنهم، أو حتى خارجه (أتكلم هنا أيضاً عن مجتمعات الديسابورا الصعيدية في المهجر وفي دول الخليج تحديداً).
هذه المتلازمة، بالتضافر مع العوامل السابقة خصوصاً البيئة الأمنية وعسكرة المجتمع الصعيدي من جانب الأجهزة الرسمية (وليس من قبل الأهالي كما يجادل البعض). إن الحديث عن السلاح في الصعيد بهذه الطريقة التي يرددها البعض أراه مبالغاً فيه إلى حد كبير، فالغالبية العظمى من الصعايدة فقراء، ومن يمتلكون السلاح هم فقط العائلات الغنية، أو التي تتاجر به وتهربه، وإن كنا نتفق مع الرأي القائل بأن حجم تجارة وانتشار السلاح قد شهد انفراجاً وتوسعاً كبيراً خلال العامين المنصرمين، ولكن ليس للدرجة التي يمكن معها أن تشبهه مثلاً بالأوضاع في سيناء. وهو ما جعل مسألة هيمنة الدولة على المجتمع الصعيدي هيمنة إكراهية/قمعية، وليس هيمنة طوعية. فالصعيد لم يجار أو يساير أو حتى يهادن السلطة طواعية أو اختيارياً – كما فعلت بعض مدن الدلتا كالبحيرة والشرقية والمنوفية وغيرها – وإنما أجبر بفعل المركزية التسلطية المتطرفة، التهميش المتعمد اقتصادياً وتنموياً، الإكراه والقمع السياسي (والمتمثل في الأجهزة الأمنية) من جانب، وبسبب الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحلية من جانب آخر.
كل هذه الأسباب جعلت من التهميش والاستبعاد الاجتماعي والسياسي داعياً ليس للثورة أو للانتفاض على هذه الأوضاع غير السوية أو العادلة، وإنما للانزواء وربما حتى للاستبعاد الاختياري أو الطوعي، عملاً بالمثل الصعيدي القائل " يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم ".
وعي ناقص
رغم كل ما سبق ذكره، إلا أن الصورة لم تكن أبداً بهذا السوء أو التردي، إننا لا نستطيع أن نغفل ذكر ورصد الأسباب والدوافع والمحركات التي دفعت (بعض) الشباب الصعيدي، سواء الذي ينتمي لأصول صعيدية أو يحيا في القاهرة أو مدن الوجه البحري، أو حتى الشباب الصعيدي في بعض المدن والمحافظات الصعيدية، للخروج في الثورة منذ الأيام الأولى، فقد كان هناك بعض المنافذ والمحاولات للهروب من هذا الواقع المزري، خصوصاً بين أبناء المدن الصعيدية، وبعض الذين تعلموا خارج حدود مدنهم وقراهم، خصوصاً في جامعات القاهرة والوجه البحري (مثل المنصورة والزقازيق والإسكندرية) وحتى جامعة أسيوط (وهي حالة منفردة في الصعيد تستحق تجربتها الدراسة عن حق) التي تضم أكبر عدد من طلبة القاهرة والوجه البحري (المغتربين) والذي ساعد اختلاط ومعاشرة شباب الصعيد لهم على تغيير أفكارهم وطريقة حياتهم بصورة غير معقولة. ولعل خروج بعض التظاهرات في هذه المدن من جانب نشطاء وطلبة جامعة صعايدة يدلل على أن هناك شيئاً تغير في الصعيد.
لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن هناك بعض المتغيرات التي كانت سبباً في تعاسة الصعيد واستمرار معاناته، إلا إنها كانت كذلك سبباً في التغير الذي طرأ على الشباب الصعيدي خلال السنوات العشرة الأخيرة، ولعل من أهم هذه العوامل تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، الارتباطات والانتماءات الأولية، الثقافة السائدة في المجتمع. حيث أدى التغيير الذي أوجدته الدولة (دون قصد أو تعمد ولكن جبراً) في هذه المتغيرات وغيرها هو الذي أوجد هذه التغيرات النوعية:
- دور التكنولوجيا والانفتاح على العالم (خصوصا الانترنت).
- تراجع دور وتأثير الانتماءات الأولية (كالأسرة والعائلة والعشيرة وغيرها) لصالح انتماءات أوسع.
- تراجع دور الدولة مقابل تصاعد دور المجتمع.
- التغير النوعي في الثقافة السائدة.
في الختام أريد أن أوضح أن هناك صعيداً نعلمه، وهو ما نعرفه ونحيا فيه من المدن والقرى الموجودة على الطريق الممتد بموازاة طريق القاهرة – أسوان الزراعي، وهو ساهم إلى حد ما في الثورة، وهناك صعيد آخر، غير معلوم أو مفهوم، بالقرب من الهضبة الشرقية والغربية لنهر النيل (شرق النيل وغربه، أو الشروق والغروب كما نقول في الصعيد) وهو كتلة صماء، غريبة تماماً عما نعرفه أو ندركه، وهي الكتلة التي لم تشارك في أي فاعليات شهدها الوطن منذ وفاة الرئيس عبد الناصر، الذي كان على دراية بهؤلاء الناس، وحاول دمجهم في المجتمع وإخراجهم من الجحور (حسب التعبير الرائع للشاعر الصعيدي الكبير عبد الرحمن الأبنودي) التي رجعوا لها مرة أخرى في حالة من السبات العميق بعد وفاته.
واجبنا الآن جميعاً – دولة ومجتمعاً – إعادة دمج هؤلاء الناس مرة أخرى، ولكن ذلك لن يحدث إلا عندما نتعامل مع مشاكلهم وآلامهم ومطالبهم، عبر التنمية الحقيقية والمستنيرة والطوعية (وليس الأمنية أو القهرية السلطوية) لكافة مناطق الصعيد. والتجربة أثبتت أن هناك بريق أمل في التخلص من كل هذه الأزمات السياسية والاقتصادية والتصدعات الاجتماعية والفروق الثقافية، فقد ساهمت الأجيال الجديدة من الشباب الصعيدي ومازالت في الثورة وفي المجال العام، ربما حتى قبل الثورة. فالأزمة هنا ليست بنيوية أو متجذرة ثقافياً، كما يروق للبعض الجدل، ولكنها أزمة تنموية ومعرفية بالأساس.
المصادر:
1 بخصوص الاحالات الخاصة بكلا من د. عمرو عدلي، د. هاني رسلان، اسماعيل الاسكندراني، فهي من محصلة مناقشات كبيرة بينهم وبين المؤلف واصدقاء أخرين مثل د. دينا الخواجة، علي الرجال، بلال عبدالله، اسلام عبد المجيد، أحمد عصفور، د. مراد دياني، و د. هاني نسيرة وغيرهم علي صفحات الفيسبوك وبصورة شخصية، عندما بدأت فكرة كتابة هذا المقال كتعليق مطول علي حساب المؤلف علي الفيسبوك.
2. اسماعيل الاسكندراني: "الشمال الثائر والجنوب الساكت"
3. حبيب عايب: "أزمة المجتمع الريفي في مصر: نهاية الفلاح". ترجمة وتحقيق: منحة البطرواي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، ٢٠١٣).
4. خالد فهمي: " كل رجال الباشا: محمد علي وجيشه وبناء مصر الحديثة ". (القاهرة: دار الشروق، ٢٠١١).
5. علي الرجال: "في ضرورة تفكيك أمننة المجتمع".
6. Nicholas Hopkins and Reem Saad (eds.): “Upper Egypt: Identity and Change”. (Cairo: American University in Cairo Press, 2004).
7. Reem Saad: “Hegemony in the Periphery: Community and exclusion in an Upper Egyptian village,” in Nicholas Hopkins and Kirsten Westergaard (eds.): “Directions of Change in Rural Egypt”. (Cairo: American University in Cairo Press, 1998).